عن العرب مرة أخرى
لا شيء يثير غيظي مثل مداخلات المشاهدين على الهواء؛ تلك التي تلوث برامج الفضائيات خاصة الإخبارية منها.. عندما يكون ضيف الحلقة في وزن حسن نصر الله أو فهمي هويدي أو سيد القمني أو المدير السابق للمخابرات المركزية في الشرق الأوسط، تكتشف أن هناك شخصًا في مكان ما يملك الشجاعة العبقرية الكافية ليرفع سماعة الهاتف ويعطل تدفق المعلومات المهم لمدة خمس دقائق، فقط كي يعبر عن آرائه في الحياة .. وهو أصلاً لا يملك أية موهبة إلا امتلاكه لخط دولي .. لكنه يتكلم بلهجة المرشد الذي يهدي هذه الخراف الضالة إلى الصواب: "أنا عجبني الأستاذ فهمي لما قال كيت وكيت وما عجبني لما قال كذا وكذا .."... إنها كلمة الحجا أخيرًا بعد ما كثر الدهماء .. وتشعر طيلة الوقت أنه من الذين يهوون سماع صوتهم وربما العبث في أصابع أقدامهم كذلك.. أذكر أن أحد هؤلاء اتصل بالشيخ القرضاوي ليصدر تعليماته: "قل للمشاهدين كذا وكذا وامنعهم من كذا وكذا ..". يومها قال القرضاوي إن نفاق العالم للحاكم أمره مفضوح وخطره محدود، أما نفاقه للعامة بأن يقول لهم ما يرغبون في سماعه فهو أمر شديد الخطر ..يقولون إن هذه المكالمات مرتبة سلفًا وأنا أصدق أن ينطبق هذا على نسبة معينة من المتكلمين، أولئك الذين يعرفون ما يقولون حقًا . لا أصدق أن يسمع جارودي المقيم في باريس الحلقة فيتصل ونسمع صوته فورًا وبهذه البساطة، ما لم يتم ترتيب ذلك مسبقًا. أما البقية الباقية فكلامها يؤكد بلا شك أن المداخلات عشوائية .. يمكن لكل متابع يقظ – وأعتقد أن أعداءنا كذلك – أن يرسم صورة دقيقة للعقلية العربية من خلال هذه المداخلات . وهي صورة لا تسر النفس على كل حال ..أولاً هناك ذلك الأخ الذي اتصل بأحمد منصور ينصح العرب بسحب أرصدتهم من مصارف الغرب بعد أحداث سبتمبر .. إلى هنا الكلام معقول .. فجأة ينفجر صارخًا : المسيخ الدجال هو من دبر أحداث سبتمبر .. أنا أنذر أمريكا إن لم تسحب قواتها في أفغانستان لأفضحن أمرهم في كل المحافل الدولية!.. وأنهى صراخه بأن أعطى أمريكا مهلة حتى صلاة الفجر للانسحاب وإلا خرب بيتها وفرج عليها (اللي يسوى وإللي مايسواش) !في برنامج آخر اتصل مسيحي مصري يؤيد المقاومة في فلسطين .. بعدها اتصل أخ من بلد عربي شقيق ليقول في حزم: "ليس لنصراني أن يتكلم عن الجهاد في فلسطين .. القضية في فلسطين إسلامية أولاً وأخيرًا أما هم فليس لهم إلا الجزية يدفعونها .."هكذا ببساطة يقول لكل مسيحي يهمه ما يحدث في فلسطين "وانت مالك يا بارد ..؟"أحيانًا يأتي الهراء مما وراء المحيط .. واحد من أقباط المهجر يتصل من الولايات المتحدة ليقول في عصبية إن الأدب العربي كله (عهر) وإن علينا أن ندرس الأدب الفرعوني العظيم الذي قدم للعالم (سنوحي).. كنت سأحترم كلامه لو قال ما قاله بالديموطيقية لكنه قاله بالعربية للأسف ..دعك من الأخ الذي أكد - بعد ما عرضت نشرات الأخبار عملية نقل عرفات المريض إلى فرنسا – أن هذه تمثيلية .. "عرفات ليس مريضًا إنما هي الطريقة المثلى ليترك الساحة لمن يتنازل من بعده !.. لو شاهدتم الصور لرأيتم أن عرفات في خير حال !" .. وتنظر أنت للصور لتجد أن عرفات يبدو كشبح .. هل أصيب الأخ المتكلم بالعمى كذلك ؟... ثم لنفترض أن عرفات يبدو سليمًا فما هو منطق هذه التمثيلية ؟.. هل عرفات يريد التنازل ؟.. إذن لماذا لا يتنازل هو نفسه ؟.. هل لا يريد التنازل ؟.. إذن لماذا يقوم بهذه التمثيلية السخيفة ؟ لكن الأخ يتكلم بلهجة قاطعة تقول بوضوح إننا بلهاء عاجزون عن رؤية الشمس ...طبعًا وقد انتقل عرفات إلى جوار ربه توقعت أن تبدأ الأغنية التالية: عرفات حي وفي مكان ما بأوروبا يستمتع بأموال الفلسطينيين .. الجنازة تمثيلية تم ترتيبها مع المخابرات الفرنسية !.. لكن خاب ظني فلم يقلها أحد بعد ..واضح أنني لست أذكى ممن أنتقدهم هنا ..هناك عبقري آخر يصر على نبذ علم الغرب كله وأن علينا أن نبدأ في تكوين علم إسلامي خاص بنا .. أي أنه يريد أن نعيد استكشاف قوانين الجاذبية وشحنة الإلكترون وتشريح البطين وربما العجلة والنار كذلك ..والسؤال هنا: لماذا تستعمل الهاتف والديش وهما ثمرة اكتشافات الغرب الكافر ؟وقد اعتادت قناة الجزيرة أن تنظم استفتاءات تداعب مقدمًا العقل العربي الذي تفهمه جيدًا .. هل تعتقد أن عرفات مات مسمومًا ؟.. هل تعتقد أن أمريكا تتلاعب بنا ؟.. الخ . والإجابة دائمًا معروفة لأن من يذكر العكس لا يمكن أن يكون عربيًا ... الحقيقة أن العقل العربي هو أخصب تربة وجدت لنمو بذور الإشاعات .. كل شيء فيه مؤامرة ما .. الكرادلة والحاخامات ساهرون في الخارج على ضوء المشاعل السباعية يشربون الدم ويخططون لتدمير حضارتنا .. حتى على مستوى الألعاب .. أقراص لعبة (بوكيمون) اليابانية عندما تحترق تكتب كلمة (محمد لا .. كعبة لا).. هل هم في اليابان رائقو المزاج إلى هذا الحد ؟.. ما نفع هذا لهم وهم لا يفكرون إلا بلغة الدولار والين ؟.. هل يكفي هذا لهدم الإسلام ؟ ..وكيف يهدمه إذا لم تكن الكتابة تظهر إلا في ظروف نادرة ؟.. ثم تعال نجرب معًا ونحرق أحد هذه الأقراص .. لا شيء .. لكن لا أحد يصدق ..الكل يؤكد أنه جرب أمس ورأى .. تخرج صحيفة مصرية مهمة تقول إن لفظة (بيكاتشو) - اسم إحدى شخصيات اللعبة - معناها (كن يهوديًا).. وهو ما أنكره كل خبراء اللغة العبرية ، لكن الجماهير لا تقبل عن نظرية المؤامرة بديلاً.. إنها طعامها وشرابها .. وتخرج المظاهرات الغاضبة ويقف تلاميذ المدارس خارج مدارسهم يحرقون أقراص البوكيمون في حماس تقربًا لله .. لا يعلم أحد مصدر هذه الإشاعة لكني أرجح أنها شركة منافسة أرادت أن يخلو السوق من البوكيمون لتسويق منتجاتها، وهو ما كان فعلاً..
0 Comments:
Post a Comment
Subscribe to Post Comments [Atom]
<< Home