تعليق جديد على مجموعة بلال فضل
هل من جديد في قصص "بني بجم" لبلال فضل ؟: ليس التصور المدهش ما يميز القصص، فالخيال الهزلي الذي يهيمن عليها يكاد يكون في متناول البصيرة. الجو الحكائي هادئ وبعيد عما يوحيه الموضوع العام حيث تتدثر القصص بسلاسة اللغة المتداولة ما بين فصيح وعامية مصرية موجزة، عفوية بأناقة، ساخرة غير هازئة، عابرة فوق جدران الاحداث اليومية، لا تصطدم بحاجز الا لتقطع مسافاتها وتستقر فوق صورة عادية. قرأت بلال فضل في "بني بجم" فحرت قليلا قبل ان اعود الى قراءة قصة اخرى قد لا تكون مفرحة بل كالحة متجهمة ومتضمنة التناقض الابدي بين الاغنياء والفقراء. ابطال بلال فضل يعانون بقسوة الهزيمة والهشاشة والانكسار والرخاوة. وجوههم مجهدة، قاماتهم محنية، وقسماتهم كالحة، حتى ان بطل القصة، ايّ قصة في المجموعة، يمارس ديموقراطيته المشروخة بانتقاد ذاته، وهو المتفرد بصبابته، المتوحد بعنائه، المستوحش قلبا والمليء حزنا. القصص مكتوبة خلال تسعينات القرن الماضي، ولا حدود لنهاياتها، اذ ان اولها شديد الاتصال بآخرها. هي، اي القصص، غير متوحدة شكلا ومحتوى، انما سردها الحكائي، على مدى التنويع والتوزيع الجماليين، لا نشاز فيه، مع بعض اطلالات على الاشراق الرومنطيقي: "الوقت قد جاور الفجر البنفسجي بكثير. لم تكن الشمس قد اكتمل اشراقها فهزّتني نسائم الصباح". بلال فضل قاص متمرد، هازىء، عدمي نهيليستي، رافض بصوت رقيق، ينبّه بالاشارة ولا يصفع، يقدّم الشكل السردي للقصة، احيانا ببراعة، واخرى من دون اكتراث جمالي، ربما بسبب نشأته التي يقول عنها: "ترعرعت في اسرة مفككة، وعشت طفولة حقيرة ومراهقة ضائعة من دون ان افهم كيف خرجت منهما على خير". لا يتقيد المؤلف كثيرا بالفن السردي الكلاسيكي او الحديث للقصة، وإن كان يتعاطى مع كلمات كبيرة مثل الموت والحياة النهاية. صوره الادبية تلفحها نسائم السخرية والهزء والتكرار حتى من ذاته، ومن الرموز السياسية التي بلغت اعلى المراتب كأنور السادات مثلا. هذه الصفات التي تحتضنها هذه القصص، تعطيها جما وافرا من النكهة الحوارية الهادئة، اذ يختزن القاص الشاب امكانات جمالية واضحة تسمح له ان يسيح بعيدا في زمنه، وفي ثقافة عصره، وقد روّض نفسه الهازئة لتمارس النقد في مهاجمة مومياء البشر. ان نص بلال فضل الجمالي حاضر في الكبائر والصغائر، رغم تغليب العامية على الفصحى، ابتداء من محاربة اليأس الى تمجيده احيانا، وصولا حتى الموت من اجل معانقة الحياة الانسانية – الشعبية المصرية في بهائها وصفائها. هذه جميعها اشارات جمالية ترسخ فعل القصة مع طموح خجول لتأكيد رسالتها ورسوليتها. ففي هذا المناخ المازج بين الهزء والهزء، بين السخرية والسخرية، تبرز قصة "لكن ربنا ستر" المكتوبة بالعامية المصرية كنموذج لاسلوب الكاتب في اخراج الافكار واعطائها الطابع الاجتماعي، كما تبرز، في هذا السياق، قصتا "ستغضب امي" و"كنائس من الناس". يرسم بلال فضل لعمله خطوطا واضحة، الامر الذي يبعده عن اضطراب الفكر وفوضاه، ويقرّبه من الهدوء والنظام والمنطق الروائي. يدعو الى منطق الامور وواقعها، اذ هو يريد ان تجري الحياة في مجاريها السهلة، وان يتحقق حلم الانسان بالمحبة والمساواة والاخاء والتسامح والالفة والعطاء. فمن خلال غلالة من الحاجة المادية يدعو المؤلف الى الفرح الارضي، وابطاله المهمشون (قليلا ما يعطي اسماء لشخوصه) يدفعونه الى أن يصوّر الناس "الغلابة" واحة جميلة تدعو الى التلذذ بمسرات الدنيا، وإن على حساب الجروح النفسية. يصرخ بلال فضل: هي الدنيا في هواجس هذه القصص التي تبرز مقاصدها، وتعبّر عن ميولها تعبيرا واضحا فيبدو لنا القاص كاتبا علوما بوطنه مصر، محاولا كشف اسرار النفس الانسانية، وما يجول في اغوارها من جوى وخيبة وحس بالرحيل مع قلق واندحار. ذلك كله بتخيل رقيق شفاف، وبلغة سهلة تنفر من الصنعة والتزويق والبهرجة، لكنها، في بعض طرائق تعبيرها، تنحدر الى العادي.